وهو الشخص الذي يُنشئ الوقف. ويواجه عدداً من التحديات منها
التحدي الأول
قد يبدو سؤالاً غريباً بعض الشيء، لكنه مهم جداً، فهو يقول باختصار (إلى أين نحن ذاهبون)، وإجابته تكون بتحديد ما يلي:
فمَن هدفه من الوقف معاقبة ورثته وقطع ما أمر الله به أن يوصل من ورثته وأرحامه ليس كمن هدفه وصل ورثته وأرحامه، ومَن هدفه من الوقف الاستفادة المباشرة كالمساجد وحفر الآبار ليس كمن هدفه الاستثمار والصرف من الريع، ومَن هدفه الصرف على الأقارب والذرية ليس كمن هدفه أعمال البر عامة، ومَن هدفه التعليم ليس كمن هدفه الطاقة والمياه، وهكذا تختلف الأحكام والوسائل والأدوات وسائر الأمور باختلاف هدف الواقف من وقفه وقدرته على وصفه وتحديده بدقة.
أخي الواقف الكريم؛
لن تكون الفكرة صحيحة شرعاً ما لم ترتبط بالنية الحسنة البيضاء التي ترفع من شأن أي عمل، ثم حسن الأتباع.
إن معرفة هذا الهدف يختصر الطريق ويجعله واضحاً، ويعطي بداية ناجحة وتتضح به الوسائل التي من الممكن أن تكون معينة لك في تحقيقه.
التحدي الثاني
قد تلوح نوايا في خاطر الإنسان تنافي مقصود الشارع من العبادات؛ وحينئذٍ يجب أن يتدارك نفسه، ويجب على من حوله ممن يستشيرهم أن يذكّروه بالله عز وجل وضرورة إخلاص النية له في العبادة، وأن الوقف مهما كبر حجمه إن لم يكن مقصودٌ به وجه الله تعالى فليس هو عبادة لله عز وجل، ولا يُعَدُّ قربة أو طاعة.
نعم قد يدفعه حب السمعة وثناء الناس أو شكرهم أو تدوين اسمه على المشروع إلى الإقدام على الوقف، أو طلب المكانة في قبيلته أو أهل حيّه أو منطقته، أو الحصول على جائزة أو وسام أو مرتبه أو جاه، فمن كان كذلك فعمله حسب قواعد شرع الله مردود، وسعيُه خاسر غير مقبول، لأنه فقد شرطاً من شروط قبول العمل وهو الإخلاص لله تعالى، حتى لو كان يحمل اسم الوقف أو الصدقة، فقد سمى المنافقون ما بنوه مسجداً، وأبطل الله عملهم ذلك وسماه مسجد الضرار، وشهد عليهم أنهم كاذبون، قال الله تعالى: [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]، [التوبة: 107] .
وقد قال الله تعالى في اشتراط الإخلاص: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] [الكهف: 110] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِيَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إن هذا التظاهر ومراءاة الناس يعتبر من الشرك الأصغر الذي حذرنا منه رسول الله عليه السلام، وهو أبرز سمات المنافقين كما قال الله -جَلَّ وَعَلَّا- فيهم: [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] [النساء: 142] .
هذا التحدي يحتاج المزيد من سؤال الله التوفيق وشرح الصدر وحضور قصد رضى الله سبحانه في كل الأعمال.
التحدي الثالث
يرد في ذهن بعض الواقفين أحياناً الخوف من تبعات بذل المال، فالشيطان قد يسوّل للنفوس حب الدنيا وخشية الفقر، وأن الدنيا قد تتقلب فيعود محتاجاً بعد أن كان غنياً.
ولإزالة هذا العائق عن طريقك أخي الواقف لابد أن تتذكر أن الله الرزاق الكريم الواسع العليم قد أخبرنا بقوله: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة:268].
قال ابن كثير رحمه الله: ومعنى قوله تعالى: [الشيطان يعدكم الفقر] أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله.
فالمسألة محسومة والصراع واضح، والواجب الحذر من كيد الشيطان والاستعاذة بالله منه ومن شر وسواسه.
ثم حتى لو طرأ هذا التفكير، فقد جعل الله لذلك مخرجاً شرعياً جميلاً، يتمثل في أن لك أخي الواقف كامل الحق الشرعي في أن تشترط في وقفك الاستفادة من كامل ريعه في حياتك حتى ولو كنت وقتها غنياً.
إضافة إلى أن لك الحق في تغيير شرطك في وقفك وفي مصرفه، إذا اشترطت ذلك بداية.
فلا تلتفت لكيد الشيطان الغَرور، فكيده على الموقنين ضعيف لا يمنعهم من الإقبال على خير الدنيا والآخرة [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] [النساء: 76].
التحدي الرابع
قد يتأثر بعض الناس ويتردد بسبب سماع بعض القصص عن تجارب وقفية لم تستمر لسبب أو لآخر، أو كان نجاحها محدوداً أو مؤقتاً، وهذا الأمر يتكرر في كثير من المجالات حتى غير الوقفية كالتجارة والاستثمار.
لكن يجب علينا أن نتذكر هنا أن المجال الوقفي يختلف عن باقي المجالات لكون الواقف قد حاز الأجر والمثوبة من الله بمجرد نيته وعزمه على فتح باب الخير هذا لنفسه، سواء تكلل عمله بالنجاح والاستمرار أو لا، فالأجر قد كُتب والنية قد بلغت والثواب قد رُصد، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لك امرئ ما نوى، وإنْ عليك إلا البلاغ كما يقول المولى جل وعلا.
ثم إن من الحقائق الثابتة أن كل مجال من مجالات الحياة فيه تجارب ناجحة وأخرى متعثرة، لكن العاقل لا تؤثر فيه هذه التجارب إلا بشكل إيجابي، فهي دروس مجانية تقدمها له الحياة ليستفيد منها، ومن الخلل النظر والتركيز على السلبيات فقط والتغافل عن الإيجابيات.
ثم إن مجال الوقف حسب التجارب التي وقفت عليها بنفسي؛ مليء بالتجارب الناجحة والمتميزة جداً، هناك أوقاف عمرها مئات السنين ولازالت تنمو وتزدهر وتؤتي ثمارها كأفضل ما يكون.
إن حقيقة الإخفاقات أنها مرحلة تمهيدية وعتبة للنجاح، لذا فإن للأول الذي أخفق فضل على من جاء بعده واستفاد من أخطائه، يتبعه أجر من الله سبحانه.
لذا كانت قصص الأنبياء وما وجدوه من تعنت أقوامهم ومحاربتهم سلواناً وأسوة لنا وعبرة، [لقد لكم فيهم أسوة حسنة]. [سورة الممتحنة:6]، لنحسن عملنا ونجوّد إدارتنا لأمورنا ومشاريعنا.
ولذا لابد أن نذكّر أنفسنا بقاعدة الإخلاص والمتابعة دائما، وأن نوقن أن الأجر قد حصل ولو لم يستمر الوقف إلا يوماً واحداً.
التحدي الخامس
تفكيرك الدائم في سؤال ما هو الوقت المناسب لأقوم بالوقف، هل هو زمن الشباب أم بعد التقدم في السن؛ قد يكون هذا تحدّياً أحياناً لك يحتاج إلى تصحيح الفكرة أولاً.
لقد أعطت الشريعة هذه الفضيلة العظيمة لكل مكلف عاقل بالغ صحيح التصرفات، مادام قادراً على ذلك، وهو ما تضمنه قول جابر في حكايته عن الصحابة "لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف" أخرجه أبو بكر الخصاف في أحكام الأوقاف.
والمبادرة بلا شك خير وأفضل في باب الصدقات، وفي الحديث عن أفضل الصدقات؛ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْمُلُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ؛ قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا وقَدْ كَانَ لفُلان) متفقٌ عَلَيهِ.
من المناسب للتاجر الشاب الذي له قدرة مالية على الوقف أن يؤسس وقفه الآن ولو بأسهم بسيطة في شركته أو نسبة مئوية في مجموعته، ليستمع به في قوته وشبابه ومقتبل نشاط تجارته وليتعلم كييف يتعامل معه، ثم كلما مضت مدة من الزمن زاد فيه ما يراه مناسباً.
التحدي السادس
التبرعات كلها أساسها القدرة، فغير القادر يجب أن لا يضيّق على نفسه أو على أسرته، وقد قرأنا قبل قليل حديث جابر الذي نص على وصف الواقفين من الصحابة بأنهم " ذوو مقدرة " .
فالذي لا يملك إلا منزله الخاص عليه أن لا يوقفه، لأن أجره بإبقاء ذلك المنزل لورثته أكبر وأهم من الوقف، مادام الدافع هو البحث عن الأجر فأجر الصدقة على القريب أعظم من الصدقة على البعيد، وقد قال الرسول الكريم لسعد بن أبي وقاص: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
نقول له فضل الله واسع، وخيارات الشريعة متنوعة لكل من يريد الازدياد من الخيرات.
ونقول له: بالتأكيد أنك ستجد فرصة أخرى من خلال المشاركة في الأوقاف الجماعية بسهم أو أكثر، أو عبر الجمعيات الخيرية التي تقوم بجمع حصص يسيرة وتنشئ من خلالها مشاريعها الوقفية الضخمة.
نعم؛ لاشيء يسيرٌ عند فضل الله، فاليسير يكون عظيماً حين تكون نية صاحبه خالصة لوجه الله تعالى، فكما جاء في الحديث عن الصدقة أن الله تعالى "يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ" رواه البخاري.
ومن الأوقاف اليسيرة مالياً أن يقِف المرء مصحفاً أو كتاباً يجري ثوابه له بعد موته، أو حتى نخلة، أو منقولاً كسيارة أو عربة أو كرسي، أو أسهماً في شركة أو نقوداً يضارب بها أويتم إقراضها، وغيرها مما يدوم أجرها ونفعها، فقد عَدّ كلَّ ذلك النبيُّ الكريم ضمن الأمور التي يستمر أجرها حيث قال: (سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته) رواه البزار وحسنة الألباني.
فانظر كيف وسّع الكريمُ دائرةَ الأعمال ليتوسع الاختيار لنا ونتجاوز برحمته وفضله هذا التحدي.
التحدي السابع
حين يضمر الواقف في نفسه ردةَ فعلٍ تجاه ورثته بسبب ضعف صلتهم به، أو سوء تعاملهم معه، مما يجعله يُقدِم على الوقف بقصد حرمانهم من أن يرثوه فإنه بذلك يذهب أجرُه ويبطل عمله، وهذا ما يسمى بوقف الجنَف ومضارّة الورثة.
وهذه الحال تشكّل تحدياً كبيراً في مسألة الإخلاص لله تعالى في العمل، فكما بيّنا سابقاً أن الوقف حين لا يكون خالصاً لوجه الله فمصيره الرد والبطلان، لأن نية التعبّد والتقرب لله مفقودة هنا.
إضافة إلى أن الواقف يخالف بهذا فرائضَ الله عز وجل التي تولى قسمتها بنفسه سبحانه، فهو استخدم حيلةً ظاهرها موافقة الشرع ولكن باطنها خلاف الشرع، وقد تقرر في فقه القضاء لدى المسلمين قاعدة:" من وقف شيئاً مضارة لوارثه كان وقفه باطلاً ". انظر: الدرر البهية مع الدراري المضية للشوكاني 2/141.
التحدي الثامن
من التحديات؛ أن ننسى فضل الله تعالى وتوفيقه، وما أحوج العبد في جميع أحواله أن لا يتكل على نفسه وقدراتها أو مستشاريه وشركائه، بل يرجو التوفيق من ربه ويسأله العون والتسديد فَإِنَّهُ لا غِنى لِلعِبَادِ جَمِيعًا عَن تَوفِيقِ اللهِ لهم، وَلا نَجَاحَ لهم في دُنيَاهُم وَلا أُخرَاهُم إِلاَّ بِتَسدِيدِ اللهِ لهم وَعِنَايَتِهِ بهم.
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
قَالَ الله تَعَالى: [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [النور:21] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ عَن شُعَيبٍ عَلَيهِ السَّلامُ: [وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ]. [هود:88].
وهذه الحال تشكّل تحدياً كبيراً في مسألة الإخلاص لله تعالى في العمل، فكما بيّنا سابقاً أن الوقف حين لا يكون خالصاً لوجه الله فمصيره الرد والبطلان، لأن نية التعبّد والتقرب لله مفقودة هنا.
إضافة إلى أن الواقف يخالف بهذا فرائضَ الله عز وجل التي تولى قسمتها بنفسه سبحانه، فهو استخدم حيلةً ظاهرها موافقة الشرع ولكن باطنها خلاف الشرع، وقد تقرر في فقه القضاء لدى المسلمين قاعدة:" من وقف شيئاً مضارة لوارثه كان وقفه باطلاً ". انظر: الدرر البهية مع الدراري المضية للشوكاني 2/141.
التَّوفِيقَ هُوَ أَلا يَكِلَكَ اللهُ إِلى نَفسِكَ، وَالخِذلانَ هُوَ أَن يُخَلِّيَ بَينَكَ وَبَينَ نَفسِكَ. ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ
التحدي التاسع
من التحديات؛ أن ننسى فضل الله تعالى وتوفيقه، وما أحوج العبد في جميع أحواله أن لا يتكل على نفسه وقدراتها أو مستشاريه وشركائه، بل يرجو التوفيق من ربه ويسأله العون والتسديد فَإِنَّهُ لا غِنى لِلعِبَادِ جَمِيعًا عَن هل أُنفذ الوقف الآن في حياتي، أم أجعله ضمن وصيتي بعد وفاتي؟
قد يشكّل هذا التساؤل تحدّياً أو سبباً للتردد عن بعض الواقفين، ولن يعرف الجواب إلا من جرّب لذة الفرح وحصول البركة بتقديم هذه القربة العظيمة من قِبَل الواقف نفسه وهو حي معافى.
إن تنفيذ الوقف حال الحياة، ورؤيته يكبر ويؤتي ثمرته، وتربية الأبناء عليه وتجهيز وثيقته وشروطه وتدريبهم على مباشرته وإعداد بعضهم ليكون ناظراً عليه في المستقبل؛ كل ذلك له أثر كبير وأجر بالغ، جاءَ رجلٌ إِلَى النبيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الصَّدقةِ أعْظمُ أجْراً؟ قَالَ: (أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْملُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ. قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا، وقَدْ كَانَ لفُلان كذا) متفقٌ عَلَيهِ.
كذلك من فوائد ذلك أن يشرف الواقف بنفسه على صياغة بعض النُّظم واللوائح ليضمن استمرار عطاء الوقف.
كثير من الوصايا مرّ عليها عقود من الزمن لم يتم إثباتها أو تنفيذها، أو تهاون الورثة في العمل بها، أو حال دون ذلك بعض القوانين والأنظمة، فلماذا أخي الواقف -بصّرك الله - تنتظر غيرك ليحسن إليك بتأسيس وقفك وتنظيمه وإدارته ثم الصرف منه، ألم تكن أولى بذلك الأجر والمسابقة ليكون وقفك سابقَاً لك إلى ربك، وهذا من أعظم أسباب حصول رضاه سبحانه [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ] [طه: 84].
لذة العطاء لا يشعر بها من أوصى.
التحدي العاشر
بعد أن من الله عليك أخي الواقف بانعقاد وقفك؛ احذر من بطلانه عند ربك، وذلك بالمن والأذى، ومن صور المنّ أن يرى الواقف نفسه محسناً، وأن الفضل له وحده على غيره، وأن يتعمد إظهار وقفه والتحدث به، طلباً للمكافأة والشكر، أو ذم غيره وازدرائه والتنقيص ممن لم ينفق مثله.
وأما الأذى فهو الاستخفاف بالموقوف لهم سواء كانوا أفراداً أو جمعيات خيرية أو غيرها، وإسماعهم ما لا يليق من القول، والتنقيص منهم في المجالس والاجتماعات، وتغليف ذلك بدعوى المناصحة وتصحيح الأخطاء.
هذا، وقد أثنى الله تعالى في كتابه الكريم على المنفقين المخلصين، وذم المنفقين المانّين والمرائين، وحكم ببطلان صدقاتهم فقال سبحانه: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿262﴾ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿263﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ ]، [البقرة:262-263-264].
التحدي الحادي عشر
حين يضمر الواقف في نفسه ردةَ فعلٍ تجاه ورثته بسبب ضعف صلتهم به، أو سوء تعاملهم معه، مما يجعله يُقدِم على الوقف بقصد حرمانهم من أن يرثوه فإنه بذلك يذهب أجرُه ويبطل عمله، وهذا ما يسمى بوقف تشتبه أحكام الوقف والوصية على كثير من الناس، ولا يفرقون بينهما، بل إن بعضهم يظن الوقف وصية والعكس، ويعبر بأحدهما عن الآخر مشافهة أو كتابة، مما يجعل المحاكم والورثة في حيرة، وتكثر القضايا والخصومات، فلابد أن تتعلم ما ستقدم عليه، واستشر أهل العلم والبصيرة يعلموك. ولا تجتهد متخفياً ومخفياً ما كتبت في وقفك فتقع فيما ذكرنا من الخلط والخلل.
الوقف يا أيها الكريم يختلف عن الوصية في:
أن الوقف يكون على الفور منذ انعقاده ، بينما لا تتم الوصية إلا بعد موت الموصي، وإن كان كلاّ من الوقف والوصية يعتبران تبرعاً.
الوقف إن نواه صاحبه وتمّمه فإنه لا يمكن التراجع عنه في قول عامة أهل العلم، لكن يجوز في الوصية أن يتراجع عنها صاحبها أو عن بعضها في أي وقت قبل موته.
الوقف لا يتملّكه المستفيد منه، بل يستفيد من منفعته فقط، بينما الوصية يتملكها الموصى له.
الوقف لا حدّ لأكثره، لكن الوصية محددة في ثلث المال فأقل، ولا تتجاوز الثلث إلا إذا وافق الورثة على ذلك وأجازوه.
من الممكن أن يستفيد من الوقف الورثة ويكون لهم منفعته، بينما الوصية لا تجوز لأحد الورثة إلا إذا وافق بقية الوارثين معه.
التحدي الثاني عشر
سأوقف لكن بعد سنة ......سأوقف لكن بعد ذلك المشروع....سأوقف بعد أن تصل ثروتي إلى مبلغ....
التسويف والتردد في فعل الطاعات هو عدوُّ الإنسان و سلاحٌ من أسلحة الشيطان يصرف به الواقف عن الخير، ولذا أرشَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه إلى اغتنامِ الفُرَصِ في الحياةِ؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: (اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك) أخرجه ابن أبي الدنيا في ((قصر الأمل)) (111)، والحاكم (7846)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10248) وقال الألباني: صحيح انظر صحيح الترغيب 3355
بعد العزم والاستخارة والاستشارة، امض في وقفك، ولا تتردد فيه، فإن ذلك توفيق من الله تعالى ساقه لك أيها الكريم.
التحدي الثالث عشر
من التحديات؛ أن ننسى فضل الله تعالى وتوفيقه، وما أحوج العبد في جميع أحواله أن لا يتكل على نفسه وقدراتها أو مستشاريه وشركائه، بل يرجو التوفيق من ربه ويسأله العون والتسديد فَإِنَّهُ لا غِنى لِلعِبَادِ جَمِيعًا عَنلعل من أكبر التحديات التي تؤثر على إنشاء الوقف وتنفيذه ونجاحه؛ هو ضعف الثقافة المعرفية المتعلقة بفكرة الوقف.
وهذا يعالج بتنمية هذه المعرفة من خلال التعلم المباشر أو سؤال أهل العلم والمختصين في الأوقاف أو بيوت الخبرة التي تعقد البرامج التدريبية في مجال الوقف.
ومما هو متقرر من فضل الله وعدله أن من بحث عن الخير وتعلمه أعطاه الله إياه، ونبينا صلى الله عليه وسلم علمّنا بقوله: (إنما الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ) رواه الخطيب في تاريخه وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 342.
ليتق الله من لا يعلم الوقف وأحكامه وخصائصه وأدواته أن يتصدر فيشير أو يتكلم فيما لا يعلم فيَضل ويُضِل ويحرم الناس الخير.
التحدي الرابع عشر
حين يضمر الواقف في نفسه ردةَ فعلٍ تجاه ورثته بسبب ضعف صلتهم به، أو سوء تعاملهم معه، مما يجعله يُقدِم على الوقف بقصد حرمانهم من أن يرثوه فإنه بذلك يذهب أجرُه ويبطل عمله، وهذا ما يسمى بوقفإن قلة الخبراء المتخصصين في تأسيس الأوقاف وكتابة وثائقها يعتبر من أكبر التحديات التي تواجه الواقف.
نعم، فقه الوقف وإدارته ليس أمراً سهلاً، وإسناد ذلك إلى غير أهل الاختصاص والدراية بأحكام الوقف وتشريعاته وضوابطه وأنظمته؛ يؤدي إلى عواقب قد تخرج الوقف عن مقصده، أو لا تحقق شروط الواقف التي قصدها في وقفه أو تخالفها وتضر بالوقف وأركانه.
إذاً؛ لابد في كتابة وثيقة الوقف من تحري تدوين الوقف على وجه يحتج به شرعًا، وأن تسلم من الأخطاء التي قد تغير مقاصد الواقفين، أو توقع الناظر والمحاكم والمستفيدين في قضايا لانهاية لها.
اعلم أيها الكريم أن وثيقة الوقف هي خارطة الطريق والحجة والمرجع لكل من له علاقة بالوقف من ناظر ومستفيد وقاضٍ وجهة إشرافية، وهي – أي الوثيقة – ما سيكون باقياً على مر السنوات وربما القرون ... وهي أيضاً المؤثرة في كل قرار، فأحسن فيها يحسن الله إليك، وابحث بدقة عن المتخصصين في تأسيس الأوقاف من أفراد أو مؤسسات ومكاتب أو مستشار متخصص يجيد البحث عنهم، وانظر كيف خلّد الله وقف عمر رضي الله عنه ليذكر في كل حكم أو محاضرة أو كتاب أو قصة عن الأوقاف، وأعظم سبب في ذلك أن عمر رضي الله عنه أول أمر فعله أن سأل أهل العلم والاختصاص: رسول الله، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصابَ عمرُ بنُ الخطَّابِ أرضًا بخيبرَ فأتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فاستأمرَه (يعنى استشاره وسأله) فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصبتُ مالًا بخيبرَ لم أصِبْ مالًا قطُّ هوَ أنفَسُ عندي منهُ فما تأمرني بِه فقالَ: (إن شئتَ حبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بِها)، قالَ فعمِلَ بِها عمرُ علَى أن لا يباعَ أصلُها ولا يوهَبَ ولا يورثَ، تصدَّقَ بِها للفقراءِ وفي القُربى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ، لا جناحَ علَى من وليَها أن يأكُلَها بالمعروفِ أو يُطعِمَ صديقًا غيرَ متموِّلٍ أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه واللفظ له.
فعمل عمر رضي الله عنه بالمشورة، فخلد التاريخ هذا الوقف المبارك منذ ما يزيد 1430سنة.
ما المانع من أن يجري الواقف مقابلات للبحث عمن يؤسس وقفه ويعمل على بناء البنية التحتية الصحيحة له، كما يجري التاجر مقابلة مع من يرشحه لإدارة شركته وتجارته.
ليس كل من أمسك القلم خبير، (وليكتب بينكم كاتب بالعدل).
التحدي الخامس عشر
من التحديات؛ أن ننسى فضل الله تعالى وتوفيقه، وما أحوج العبد في جميع أحواله أن لا يتكل على نفسه وقدراتها أو مستشاريه وشركائه، بل يرجو التوفيق من ربه ويسأله العون والتسديد فَإِنَّهُ لا غِنى لِلعِبَادِ جَمِيعًا عَنالسؤال الذي تكرر علي كثيراً من الواقفين مما يشكل تحدياً وهاجساً لديهم هو: هل تتدخل بعض الجهات والهيئات في وقفي؟
وكثيراً ما أبعث فيهم الطمأنينة بشهادة الحق أن بلادنا -حرسها الله تعالى- المملكة العربية السعودية وقيادتها منذ تأسيسها ترفع شعار دعم الأوقاف وزيادتها وعدم إضعافها، وتسهيل أمورها، انطلاقاً من تحكيم كتاب الله تعالى وشرعه، فلا تتدخل في شرط الواقف ولا تستولي على شيء من الوقف، وتحل نزاعاتها عبر القضاء الشرعي المتخصص الذي يراعى ويلزم بشرط الواقف وتنفيذه ما لم يخالف كتاب الله تعالى.
وبفضل ذلك ازدهرت الأوقاف وأثمرت وتوسعت ونمَت، مما يدل على أن لا واقعية لهذا الوهم الذي شكّل تحدياً غير حقيقي لدى بعض الواقفين، وهل تثمر الشجرة في أرض سبخة؟
ومن تجربتي الخاصة؛ وقفت على أوقاف في مكة وفي المدينة وفي غيرهما يستفيد من ريعها أفراد ليسوا من مواطني المملكة العربية السعودية وتصلهم مخصصاتهم وفق شرط الواقف بحمد الله تعالى، فاحذر أن يصرفك الشيطان بمثل هذا التحدي المتوهَم.
وبالمقابل؛ يجب أن نُقبل على التعاون والتواصل مع الجهات المشرفة على الأوقاف وهي هيئة الأوقاف في بلادنا حرسها الله، والجهات التنظيمية، ليتواصى الجميع بالحق والصبر في تجاوز هذا التحدي وصناعة أنموذج رائد للأوقاف على مستوى العالم، فبلادنا محط أنظار العالم في الأوقاف، وهذا داخل في توجيه العزيز الحكيم بقوله: [وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر:1-3].